
إن التطلع إلى الديمقراطية في المجالين العربي والإسلامي ، أضحى اليوم من القضايا المشتركة بين الشعوب العربية والإسلامية . صحيح أن كل نخبة وشريحة ، تفهم هذا التطلع بطريقة قد تتمايز عن الفهم الآخر ، إلا أن الجامع المشترك بين كل هذه الأفهام ، هو تطلع الجميع ومن مواقع متعددة إلى الديمقراطية .
والتعبيرات عن هذا التطلع متفاوتة ، إلا أنها تعبيرات توحي بضرورة إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية ودستورية في البلدان العربية والإسلامية .
وبطبيعة الحال ، فإن هذه الضرورة ليست بدون خسائر ، وإنما الإصلاحات السياسية والاقتصادية ، تقتضي دفع ثمن وتقديم خسائر ، ولكن هذا الثمن وهذه الخسائر هي الأدنى .. بمعنى أن استمرار الأوضاع على حالها ، سيكلف الجميع خسائر فادحة وأثمان باهضة . بينما الانخراط في مشروع الإصلاح السياسي ، فإنه لن يكلفنا إلا القليل من الثمن والخسائر . وهو الثمن الضروري الذي ينبغي أن يدفع في أي تجربة إصلاحية وتجديدية .
وإن الموجة الديمقراطية الثالثة ، التي يعيشها المشهد العالمي ، يدفعنا إلى ضرورة بلورة خيار التحول الديمقراطي في مجالنا العربي والإسلامي .
وفي إطار التحول الديمقراطي المأمول ، نؤكد على النقاط التالية :
الوعي الديمقراطي :
إن تطور الخيار الديمقراطي في بلادنا ،مرهون إلى حد كبير على انتشار الوعي الديمقراطي في صفوف الأمة والمجتمع . حيث أنه لا يمكن أن يتحقق تحولا ديمقراطيا ، بدون وعي عميق بضرورة الديمقراطية وأهميتها ودورها في إخراجنا من المآزق الكبرى التي نعانيها على مختلف الصعد والمستويات .
والوعي يبدأ بالاهتمام كثقافة وآليات وطريقة ومنهجا في إدارة الأمور والقضايا . ويمر بفهم عميق للعبة الديمقراطية ومقتضياتها ، بحيث أن يكون سلوكنا الخاص والعام منسجما ومتطلبات الديمقراطية .
ويتجذر هذا الوعي بضرورة الالتزام بكل مقتضيات الديمقراطية ، بحيث نقبل النتائج حتى ولو كانت ضد مصالحنا الخاصة والضيقة .
وعبر هذه العملية ، يتحقق الوعي الديمقراطي كأحد الشروط الأساسية ، لإحداث تحول ديمقراطي ـ سلمي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية .
ومهمة النخب المؤمنة بالديمقراطية في هذا المجال ، هو العمل على تعميم هذا الوعي وتعميقه بمختلف الوسائل في الواقع المجتمعي .
الثقافة الديمقراطية :
إذ أن تعميق الخيار الديمقراطي في واقعنا المجتمعي ، بحاجة إلى ثقافة ديمقراطية ، تؤكد على القيم الكبرى الحاضنة والحاملة للديمقراطية ، وإلى قيم ثقافية تحترم الآخر بكل تجلياته وعناوينه ، وتسعى إلى تأكيد قيم التنوع والاختلاف والتعددية وحقوق الإنسان . فبوابة تعميق الخيار الديمقراطي ، هي تجذير الثقافة الديمقراطية في الواقع المجتمعي . وذلك لأن الديمقراطية ، ليست أشكالا سياسية أو إجراءات قانونية فحسب ، وإنما هي قبل كل ذلك ، ثقافة تقبل المغاير وتحترمه ، تؤمن إيمانا عميقا بأن الحقائق الإنسانية والسياسية نسبية ، وإنه لا يمكن احتكارها من قبل أي طرف . وهي ثقافة تشجع وتدفع الجميع للمشاركة في المجال السياسي ، باعتباره مجالا عاما ، ومن حق أي مواطن أن يشترك فيه ويتبوأ مواقع قيادية فيه . لذلك فإن التحول الديمقراطي ، بحاجة إلى ثقافة مستمرة ، ترفد الواقع بأفكار وتصورات ناضجة ، تحتضن هذا الخيار ، وتدافع عنه ضد كل النزعات والتوجهات التي تحول دون تطور الخيار الديمقراطي في مجتمعاتنا .
وهذا بطبيعة الحال ، يتطلب تنمية كل التجارب الأهلية والتطوعية والمدنية في مجتمعاتنا ، لأنها تساهم في توسيع المجال العام ، وتحد من تغوّل الدولة ، وتعمق من خيار المشاركة والتداول والمسؤولية العامة .
الإرادة الديمقراطية :
وإن التحول الديمقراطي في الواقع الاجتماعي ، لا ينجز صدفة أو بعيدا عن الإرادة الإنسانية . بل هو وليد للجهد البشري المتجه صوب إنجاز هذا التحول ، كما أنه وليد الإرادة الإنسانية التي تقاوم كل الاحباطات والعقبات ، وذلك من أجل الوصول إلى حياة ديمقراطية جديدة . ولو درسنا كل تجارب التحول الديمقراطي في العالم المعاصر ، نجد أن لإرادة الشعوب والمجتمعات ، الدور المركزي في هذه العملية .
فلا يكفي أن تحمل ثقافة تفضل نظام الديمقراطية على نظام الاستبداد ، وإنما بحاجة هذه الثقافة إلى إرادة إنسانية ، تمتلك الاستعداد التام لترجمة هذه الثقافة ، ومجابهة كل آثار الاستبداد في الحياة الثقافية والسياسية .
فـالتحولات الإنسانية ، دائما بحاجة إلى إرادة إنسانية متواصلة . ولا يكفي في مثل هذه التحولات ، أن تدرك أهمية الديمقراطية أو الفوائد المرجوة من تحقيقها .
إن مربط الفرس في عملية التحول الديمقراطي ، هو وجود إرادة اجتماعية تعمل على هذا التحول ، وتتحمل صعاب العملية ، وتتجاوز كل احباطات الواقع والتباساته ، والقبض على كل متطلبات الفعل الديمقراطي .
والديمقراطية لا تنال بالخطب الرنانة والشعارات البراقة ، بل بفـعل اجتماعي متواصل ، يتجه صوب تأسيس كل البنية التحتية لمشروع الديمقراطية في الــواقع الاجتماعي .
وإن التحولات الديمقراطية التي تتم بعيدا عن الإرادة الاجتماعية والشعبية ، تفتقد إلى العمق السياسي والاجتماعي الذي يسندها ويجذرها ، ويجعلها حالة سياسية وثقافية واجتماعية لا يمكن التراجع عنها .. وذلك لأن ” حقيقة الديمقراطية هي أنها تنظيم اجتماعي ـ سياسي شامل لا بد من أن يقوم على عدد من الركائز الأساسية ، منها ثبات النظام الدستوري والقانوني وتأمين الحريات العامة وتعمق الديمقراطية المنظمة وتجذرها من خلال أحزاب حقيقية متنافسة ، وبناء توافق يشمل كحد أدنى فكرة التبادل السلمي للسلطة واستبعاد آلية الانقلاب السياسي أو العسكري ، وقبول الجيوش للسيادة المدنية بصورة مستقرة ، ودخول المجتمع ككل إلى المعترك السياسي بصورة منظمة ، وغير ذلك من المؤشرات ” ( مجلة المستقبل العربي عدد 276 ، ص 121) .
فلا ديمقراطية حقيقية بدون إرادة مجتمعية ، تطالب بها ، وتدافع عن قيمها ، وتضحي من أجل تكريسها في الواقع الخارجي .
ومن خلال هذا الثالوث ( الوعي ـ الثقافة ـ الإرادة ) ، تتشكل الظروف الذاتية والموضوعية لعملية التحول الديمقراطي .
فالامتزاج الرشيد بين هذه القيم ، يوفر إمكانية الانطلاق في خطوات عملية متواصلة في مشروع التحول الديمقراطي .. فالممارسة الاجتماعية والسياسية ، تستند إلى وعي عميق بالديمقــراطية ، وثقافة توضح سبل ترجمة هذا الوعي إلى برامج عمل ومشروعات سلوك . وبهذا تضيف الممارسة خبرة وتجربة ، تزيد من فرص النجاح ، وتبدد كل أسباب الإحباط والتوقف عن التقدم والتطور .
وهذا لا يعني أن عملية التحول الديمقراطي ، عملية بسيطة وسهلة . بل هي عملية صعبة ومعقدة ومركبة ، وتحتاج إلى جهود ضخمة وأنشطة متواصلة ، ونضج سياسي رفيع ، ومغالبة دائمة لكل العقبات التي تعترض عملية التحول نحو الديمقراطية .
فهي عملية تتطلب تراكما متواصلا من العمل السياسي والاجتماعي والثقافي والحضاري ، لكي تصبح الديمقراطية كثقافة وسلوك جزء من النسيج المجتمعي بكل عناوينه ومستوياته .
فالبناء الديمقراطي في كل الظروف ، هو بحاجة إلى الوعي والثقافة والإرادة . وذلك لأنه لا يمكن أن يتحقق تقدما على هذا الصعيد ، بدون الإنسان الذي يمتلك وعيا صادقا بالديمقراطية ، وثقافة توضح له سبل إنجازها ، وتنير له دروب تجاربه وممارساته ، وإرادة صلبة قادرة على ترجمة التطلعات وإنجاز الوعود وتحقيق الطموحات .